جلستُ على الأرض فقد أبت رجلاي أن تحملاني، نعم فقدتا القدرة على كل شيء فجاءة! وأنا أحمل حقيبة يدي الصغيرة رميت بداخلها قلم رصاص وبعض الأوراق، ظننتُ أنها الأكثر أهمية في تلك اللحظة، لحظة مغادرتي مكرها، بيتي الصغير لطالما حلمت أن أُغيِّر فيه قليلًا؛ ألوان الجدران والنوافذ حتى لون مكتبتي الصغيرة. ذهبنا وأحضرنا الألوان استعدادًا لدهنها، كانت جميلة جدًا، صممتها بنفسي كلوحة جميلة جدًا على شكل طائر جناحيه يحلقان عاليًا، وضعتُ الأرفف على الجناحين بأهمية بالغة، وجعلتُ جسد الطائر كأنه قلب يفتح ويغلق.. كان طائرًا جميلًا كل من رآه أحبه، حتى رأسه، منقاره، فمه، وعيناه عبارة عن أدراج تحمل الكتب مختلفة الأشكال، بدأت جمع مكتبتي أولًا من الكتب التي اشتريها لأقرأها.. غالبية كتبي في الواقع كانت رخيصة الثمن أجمعها من بائع يفترش الأرض، بمرور السنوات صارت الكتب مكدسة في كل مكان، أقوم أحيانًا بإهداء بعضها لأصدقائي الذين يتبادلونها فيما بينهم، كان الأمر غير هام؛ فكل كتاب له قصة صغيرة من المفاصلة في سعره، يصفني البائع بكلمته: معقولة أنتِ زبونتنا الدائمة استريحي لن تجدي من يبيعك بربع سعرنا! كان يصدق بقوله، وفي آخر شهور تركت المجادلة فصرت أدفعُ ما يقوله، للمرة الأولى فكرتُ في إعادة غرفة الضيافة وجعلها بمستوى يليق بزيارات أصدقاء بنتي حين عودتها من إجازتها، نعم صممت المكتبة ولم أنسَ شراء طقم كنبات جديد كليًّا وفق ذوقي الرفيع كما أعتقد. كل شيء كان جاهزًا لاستقبال العيد، تبقى فقط الدهان، حين سمعنا صوت الانفجارات وأصوات الرصاص مجهول المصدر قليلًا، عرفنا أن الحرب قامت، بغض النظر عن سببها، حاولت تجاهل الأمر واستمرار خطتي، لكن بدأت المغالق في إقفال أبوابها أمامنا! بدأ الضرب بعد أن كان بعيدًا جدًا يقترب كل يوم إلى أن أصبح مجاورًا تمامًا لبيتنا، كنا نحتمي بحوائطه من الرصاص إلى أن بدأ الإعلان عن انهياره بضرب الدوشكا والدانات، نستمع للجنود وهم يصرخون الله أكبر، لم نعرف وقتها من يقاتلون، ما سبب القتال.. كلها أسئلة من دون إجابة، كنا في الساعات القليلة التي ننام فيها نغفو تحت جناح الطائر علَّه يحمينا من ضرب الرصاص، قليلًا قليلًا بدا ذلك يخفت، نختار أكثر الأماكن بعدًا عن النافذة إلى أن أتى اليوم الذي خرجت فيه، وتركت طائري وكتبي.. اشتعلت النيران بأحد جناحي الطائر فأكلت معها كل الكتب، التي خصصت لها جزءًا ثابتًا من راتبي كل شهر، سمعت صوت ارتطام القذيفة بالحائط مقابل الطائر فأحدثت ثقبًا كبيرًا. وبدأ الجدار في التقدم والطائر يحترق، رغم ذلك لم يتوقف صوت الرصاص من حولي، رغم صراخي الذي لم يسمعه أحد، انتشلتني يداي ولم يتوقف صراخي، كنتُ أجر قدماي متثاقلة، وجدت قلم الرصاص في أقرب مكانٍ إلى يدي فحملته، وألقيت به بكل اهتمام في حقيبتي ومعه بعض الأوراق. الجميع كان يجري خائفًا من سقوط أكوام الأسمنت، إلا أنا أجرجر رجلاي وهما لا تحملاني، نزلت فكان في استقبالنا مطر من الرصاص الحي، أظنُّ أن بعض أهلي تم اغتيالهم دون سبب كلَّما تقدَّمنا في محاولتنا للنجاح يسقط أحدنا لا نستطيع التوقف لحمله. لا أعرف كم من الوقت استمر بحثنا عن النجاة، توقفت قدماي عن حملي فقلت لهم: "أسرعوا حاولوا النجاة إن استطعتم لتخبروا ابنتي عن استعدادي لقدومها واحتفالًا بالعيد".. كيف أني صممت مكتبتي كطائر عملاق لكنه قبل أن يحلق بعيدًا بعيدًا أصابته القذائف فاحترق مع قلبي!